
إطلاق العنان لوزارة الزكاة في موريتانيا: تعزيزا للتنمية الاقتصادية وتحقيقا للعدالة الاجتماعية / محمد عبد الله محمد جدو
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
قال الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سورة البقرة: 110].
تُعد الزكاة من أهم أركان الإسلام الاقتصادية والاجتماعية، ولها من الآثار الإيجابية ما لا يمكن حصره، خصوصًا في معالجة مشكلات الفقر والبطالة، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وقد شرعها الله تعالى لحكمٍ عظيمة ومقاصد سامية تتعدى الجانب التعبدي إلى أبعاد اقتصادية وتنموية واسعة. وفي وقتنا المعاصر، حيث تتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، تظهر الزكاة كحل رباني شامل يعالج الاختلالات البنيوية في توزيع الثروة، ويحقق التوازن والاستقرار داخل المجتمعات.
لقد حاول علماء الغرب أن يضعوا قوانين للضرائب بغية الوصول إلى نتائج اقتصادية إيجابية تنعكس على حياة الأفراد، وخصوصًا الفقراء، غير أن تلك القوانين لم تنجح كثيرًا في تحقيق العدالة المرجوة. والسبب في ذلك أنها فرضت على الجميع، بما فيهم الفقراء، مما زاد من أعبائهم، فغابت العدالة، وتفاقمت الفجوة بين الطبقات. أما الإسلام، فقد جاء بتشريع الزكاة لتكون وسيلة رحمة وعدل وتكافل، تؤخذ من الأغنياء وتُرد إلى الفقراء، بشكل منظم، يحقق النماء ويوفر الحد الأدنى من الكرامة المعيشية.
ومن أبرز آثار الزكاة الاقتصادية تأثيرها المباشر على الإنتاج القومي، حيث إن إنفاق الزكاة على الفقراء الذين يمتلكون ميلاً أكبر للاستهلاك، يؤدي إلى زيادة الطلب الكلي الفعّال في السوق، مما يشجع المنتجين على توسيع إنتاجهم لتلبية ذلك الطلب. كما أن سهم الغارمين في الزكاة يعزز الثقة بين الدائنين والمدينين، ويدعم استقرار المعاملات الائتمانية، ويشجع على الدخول في مشاريع استثمارية مشروعة تخدم الاقتصاد الوطني.
أما على مستوى الاستثمار، فإن الزكاة تحفّز على تحريك الأموال وتفادي الاكتناز، لأن ترك المال مجمدًا يعرض صاحبه لخسائر سنوية بسبب وجوب إخراج الزكاة منه. ولهذا كان الالتزام بأداء الزكاة سببًا في دفع رؤوس الأموال نحو النشاطات الاستثمارية الحلال. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اتجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة”.
كما تسهم الزكاة في تخفيف البطالة وتعزيز التوظيف، خصوصًا في حالات البطالة الإجبارية، إذ يمكن دعم العاطلين الراغبين في العمل من خلال تمويل مشاريع صغيرة أو تأهيل مهني. أما البطالة الاختيارية فلا يشملها استحقاق الزكاة، لأنها لا تعود إلى عجز حقيقي بل إلى كسل وتواكل. وفي هذا الإطار قال صلى الله عليه وسلم: “لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى”.
ومن أهم مقاصد الزكاة أيضًا إعادة توزيع الدخل والثروة بشكل يقلص الفجوة بين الطبقات، ويساعد على استقرار المجتمع وتقوية أواصر التكافل والتراحم. كما تسهم الزكاة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، إذ إن نتائجها التراكمية تؤدي إلى زيادة الطاقة الإنتاجية وتحسين المستوى المعيشي لأفراد المجتمع.
وللزكاة دور بارز في تحقيق التكامل الاجتماعي، فهي فريضة لا تُمثل منة من الغني على الفقير، بل هي حق مفروض. قال تعالى: (وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم) [سورة الذاريات: 19]. ويؤديها المسلم طاعة لله، كما أن لها أثرًا في تطهير النفس والمال معًا، وتعود بالنفع على الفرد والمجتمع.
ومن خصائص الزكاة أنها لا تُفرض إلا على المال النامي، مما يدفع أصحابه إلى تنميته واستثماره، لأن إخراج الزكاة من الأصل دون نمو يؤدي إلى تآكله. وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: “ألا من ولي يتيماً له مال فليتجر بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة”.
وتعمل الزكاة كذلك على تحسين الموقع التساومي للعامل المضارب، إذ يُلزم صاحب المال شرعًا بتوظيف أمواله، خاصة مع تحريم الربا في الإسلام، مما يجعل من الاستثمار المنتج هو الطريق الشرعي والنافع لتحريك الأموال. وهذا بدوره يساهم في تحقيق الكفاءة الاقتصادية وتخصيص الموارد بحسب الحاجات الحقيقية لأفراد المجتمع، وتعظيم الرفاه الاجتماعي من خلال رفع المنفعة الكلية، إذ أن المال في يد الفقير غالبًا ما تكون له فائدة أكبر مما لو بقي في يد الغني.
كما أن الزكاة تؤدي إلى تقليص الفوارق الطبقية وتحقيق تجانس اجتماعي، وتقلل من تكلفة محاربة الجريمة عن طريق تحسين الظروف المعيشية، وتوفير الفرص الاقتصادية للفئات المحرومة. وتسهم الزكاة أيضًا في محاربة الجهل من خلال تمويل تعليم من لا يملك القدرة على التعلم، وتدعم فئة المتفرغين للعلم.
وفي الجانب الأسري، تساعد الزكاة في معالجة ظاهرتي العزوبة والعنوسة، عبر توفير الدعم المالي الذي يذلل العقبات الاقتصادية أمام الزواج، ويساعد الشباب على بناء أسر مستقرة. كما تُعتبر الزكاة أداة تأمين اجتماعي في مواجهة الكوارث والجوائح والنوازل التي قد تطرأ على المجتمعات، إذ تقوم بتوزيع العبء التضامني على الأمة كلها لا على الأفراد وحدهم.
وتغرس الزكاة في قلب المسلم فهمًا عميقًا لوظيفة المال، وتُعيد تعريف الملكية باعتبارها استخلافًا لا امتلاكًا مطلقًا، كما قال تعالى: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) [الحديد: 7].
كل هذه الآثار الإيجابية وغيرها، تفرض على الدولة المسلمة تنظيم جباية الزكاة وتوزيعها وفق نظم شفافة، تُحقق العدالة وتُزيل الخلل، عبر مؤسسة رسمية تكون مسؤولة عنها، مثل إنشاء وزارة خاصة بالزكاة تُعنى بجمعها وتوزيعها وفق المصارف الشرعية.
إن التبرعات الفردية والجهود الذاتية، رغم أهميتها، لا تفي بالغرض في ظل تشتت الجهود وضعف التنسيق. ومن هنا تبرز الحاجة إلى تأسيس وزارة الزكاة في موريتانيا، أسوة بما تحقق من إنجازات دينية وثقافية مهمة، مثل طباعة أول مصحف موريتاني (مصحف شنقيط)، وإنشاء جامعة العيون الإسلامية، وإذاعة القرآن الكريم، وقناة المحظرة، ومشروع بناء أكبر مسجد في تاريخ البلاد ،فإنشاء وزارة الزكاة سيكون امتدادًا طبيعيًا لهذه الجهود، ودعمًا حقيقيًا للفقراء والمحتاجين، واستثمارًا في العدالة والتنمية والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، فلماذا لا نطلق العنان لوزارة الزكاة في موريتانيا ؟ .