
في أحد أحياء المدينة العتيقة، وُلد ياسين في أسرةٍ متواضعة، كان والده نجّارًا ماهرًا، ورث الحرفة أبًا عن جد، يصنع الأبواب والنوافذ بإتقانٍ يجعل من الخشب قطعةً من الفن. كبر ياسين في الورشة بين صوت المطرقة ورائحة الخشب، لكنه، مع مرور الزمن ودخوله الجامعة، بدأ ينظر إلى هذه المهنة بعين الاستعلاء. كان يقول لزملائه:
«لن أكون نجارًا مثل أبي… سأكون شيئًا أكبر.»
كان يرى أن المهن اليدوية لا تليق بطالبٍ جامعيٍ مثله. أراد أن يعيش حياةً مرفهة، أن يرتدي أزياء أنيقة، ويقود سيارة حديثة، ويجلس في المقاهي الفاخرة، كما يرى بعض أقرانه يفعلون. لكنّ الواقع كان مختلفًا؛ فقد تخرّج في تخصصٍ مزدحمٍ لا فرص حقيقية فيه، وبقي شهورًا طويلة يبحث عن عملٍ دون جدوى. رفض عدة عروضٍ للعمل في مجالاتٍ مهنية شريفة بدعوى أنها «لا تليق به»، ورفض العودة إلى ورشة والده التي كانت في أمسّ الحاجة إلى يدٍ شابةٍ قوية.
بمرور الوقت، بدأ العجز المالي يضغط عليه، والديون تتراكم، والخيبات تتوالى. كان يخرج من البيت صباحًا متظاهرًا بالانشغال، يجلس في المقاهي، يراقب من بعيد أولئك الذين يملكون ما لا يملك، ويحسدهم في صمتٍ مؤلم. وفي لحظة ضعف، تسرّب إلى قلبه فكرٌ مظلم: «لماذا لا أجرب الطريق السهل؟»
بدأت الخطوة الأولى صغيرة: سرقة هاتفٍ من أحد الزوار في السوق، دون أن يلاحظه أحد. شعر بالخوف أولًا، ثم بنشوةٍ عجيبةٍ حين باعه وحصل على مالٍ سريع. كانت تلك اللحظة المفصلية التي حوّلت طالب الجامعة إلى سارقٍ مبتدئ. لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل بدأ يستهدف محلاتٍ صغيرة في الأحياء الشعبية، يراقبها بعينٍ باردةٍ كان والده لو رآها لا عرف أن قلب ابنه تغيّر.
لكن ما خفي لا يبقى طويلًا. في إحدى الليالي، وبينما كان ياسين يحاول التسلل إلى محلٍ لبيع الأدوات الكهربائية، ضبطته الشرطة متلبسًا. كانت الصدمة مزلزلة. رآه أحد جيرانه وهو يُقاد مكبّل اليدين، فانتشرت القصة في الحي خلال ساعات. لم يكن الألم في العقوبة فقط، بل في نظرات والده حين جاء لزيارته في السجن: نظرة رجلٍ لم يصرخ، لكنه انكسر من الداخل.
في السجن، خضع ياسين لبرنامجٍ إصلاحي جديد أطلقته وزارة العدل، يهدف إلى إعادة تأهيل الشباب المنحرفين عبر التدريب المهني والعمل الشريف. لم يكن في البداية راغبًا في المشاركة، لكنه حين أُدخل إلى ورشة النجارة التي أقيمت داخل السجن، ولامست يده الخشب مجددًا، تسلل إليه إحساسٌ قديم: إحساس الفخر والإنجاز. بدأ يتعلم من جديد، هذه المرة بعينٍ أخرى؛ لم تعد المطرقة رمزًا للبساطة، بل رمزًا للكرامة التي فرّط فيها.
بعد انقضاء محكوميته، خرج ياسين بمهارةٍ حقيقية وشهادةٍ مهنية. زاره أحد مديري برامج دعم المشاريع الصغيرة، وأخبره عن إمكانية منحه قرضًا حسنًا لافتتاح ورشةٍ خاصة به إذا التزم بالجدية. وافق، وافتتح ورشةً صغيرة تحمل اسمًا بسيطًا: «ورشة ياسين للأعمال الخشبية». في البداية، واجه صعوبة في استعادة ثقة الناس، لكن مع الوقت، وبجودة عمله وصدقه، بدأ الزبائن يعودون. لم تمضِ سنة حتى أصبح لديه أربعة عمّالٍ، وأصبح من النماذج التي تُذكر في الحملات الوطنية لتشجيع العمل الشريف.
قال ياسين في أحد لقاءات التوعية في جامع الحي:
«كنت أهرب من المطرقة… فصارت المطرقة هي التي أنقذتني.»
وهكذا، تحولت قصته من انحدارٍ نحو الظلام إلى صعودٍ بطيءٍ نحو النور، مؤكدةً أن اليد التي تسرق يمكن أن تعود لتبني إذا وجدت طريقًا للوعي والكرامة.
العافية امونكه