
لم يكن الاعتراف الدولى المتسارع بدولة فلسطين خطوة بروتوكولية أو إعلانا رمزيا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة؛ بل هو تحوّل جوهرى فى معادلة الصراع يعيد صياغة خريطة العلاقات الدولية من جديد. ولعل السؤال الأعمق الذى يفرض نفسه اليوم ليس فقط: هل تبدأ عزلة إسرائيل؟ وإنما: كيف ستبدو المنطقة والعالم بعد أن تكسّرت أسطورة “الدولة الاستثناء” التى لا يُسائلها أحد؟
إسرائيل التى طالما روجت لنفسها باعتبارها “واحة الديمقراطية” فى صحراء الشرق الأوسط تجد نفسها فجأة أمام مرآة تعكس صورتها الحقيقية: كيان استيطانى محاصر بالأسئلة الأخلاقية والقانونية، ومعزول عن وجدان شعوب العالم حتى وإن ظلت بعض الحكومات تُبقى على قنوات التواصل معها. ما يجرى اليوم ليس مجرد قرارات من دول هنا أو هناك؛ بل هو تحول فى الوعى العالمى عودة البوصلة إلى معناها الإنسانى قبل السياسى وتأكيد أن الحق الفلسطينى لم يعد موضوعا للتفاوض بل حقيقة تعترف بها العواصم وتكرسها الشعوب.
لكن المشهد الأهم يتجلى فى مصر فبينما ينشغل كثيرون بالبعد القانونى والسياسى للاعترافات يبقى الدور المصرى هو الركيزة الأعمق. فمصر لم تنتظر اعترافات الآخرين لتحدد موقفها من فلسطين بل كانت منذ البداية شريكا فى الوعى والدم والمصير. مصر التى خاضت الحروب وقدّمت الشهداء واحتضنت المفاوضات ودفعت كلفة دعمها للقضية فى السياسة والاقتصاد والدبلوماسية تعود اليوم لتجد العالم يتحرك فى الاتجاه الذى طالما نادت به. هذا التلاقى بين الموقف المصرى الثابت والإرادة الدولية الناشئة يفتح الباب أمام صياغة مرحلة جديدة من الفاعلية: ليس فقط حماية الحقوق الفلسطينية وإنما إعادة ضبط التوازنات فى المنطقة كلها.
قد يظن البعض أن الاعترافات الدولية تكفى وحدها لفرض حل نهائى لكن الحقيقة أن إسرائيل – وهى كيان وُلد من رحم القوة والهيمنة – لن تستسلم بسهولة. هنا يبرز سؤال المستقبل: هل نحن أمام عزلة سياسية تُفضى إلى عزلة استراتيجية أم أن إسرائيل ستلجأ إلى سياسة “الهروب للأمام” بتوسيع عدوانها وابتكار ذرائع جديدة؟ الواقع يقول إن كلا السيناريوهين مطروح لكن الجديد هذه المرة أن مصر والشعوب العربية ومعها الرأى العام العالمى يملكون القدرة على موازنة المشهد.
الشعوب – لا الحكومات فقط – هى الفاعل الجديد فى المعادلة. ما نشهده من مظاهرات صاخبة فى عواصم الغرب ومن حملات مقاطعة ومن انتقال خطاب التضامن مع فلسطين إلى الجامعات ومراكز البحث وحتى الإعلام الغربى ذاته، يشير إلى أن إسرائيل لم تعد قادرة على احتكار روايتها القديمة. “عزلة إسرائيل” إذن ليست قرارا فوقيا فحسب ، بل نتاج حراك إنسانى متراكم يعيد تعريف الأخلاق فى السياسة الدولية.
فى هذا السياق تبدو مصر أمام فرصة تاريخية مضاعفة: أن تقود من جديد معركة الشرعية الدولية وأن توظف ما راكمته من خبرة دبلوماسية وقدرة على الوساطة لتتحول من مجرد طرف إقليمى إلى مركز ثقل عالمى فى إدارة هذا الملف. مصر تمتلك الشرعية التاريخية، والمصداقية الشعبية ، والقدرة على الجمع بين الأطراف المتباعدة. وإذا كانت الاعترافات الدولية قد كسرت جدار الصمت فإن القاهرة قادرة على تحويل هذا التصدع إلى بوابة لحل عادل ودائم يضمن الحقوق الفلسطينية ويؤسس لأمن إقليمى حقيقي.
ويبقى العامل الشعبى المصرى علامة فارقة. فشعب مصر لم يتعامل مع فلسطين يوما كقضية خارجية بل كجزء من وجدانه وهويته. من شوارع القاهرة إلى قُرى الصعيد وسواحل الدلتا ظل الفلسطينى حاضرا فى الخطاب اليومى فى الفن فى الإعلام وحتى فى الذاكرة العائلية. هذا العمق الشعبى لا يقل أهمية عن الاعترافات الرسمية لأنه يوفر رصيدا معنويا يعزز الموقف السياسى والدبلوماسى ويجعل من كل جولة تفاوضية امتدادًا لإرادة شعبية راسخة.
المرحلة المقبلة قد لا تكون سهلة فإسرائيل ستسعى بكل ما أوتيت من أدوات ضغط وتشويه لتقويض هذا المسار. لكنها للمرة الأولى تجد نفسها أمام عزلة لا تنبع من خصومها فقط بل من داخل المجتمعات التى طالما اعتبرتها حليفة. العزلة هنا ليست نهاية طريق بقدر ما هى بداية تحوّل: انتقال من “عصر الاستثناء الإسرائيلي” إلى “عصر المساءلة الإسرائيلية”.
إن الاعترافات الدولية بدولة فلسطين ليست محطة وصول بل بداية مسار جديد يعيد للعالم شيئا من عدالته المفقودة. ومصر بحكم التاريخ والجغرافيا والدور ليست مراقبا فى هذا التحوّل بل هى قلبه النابض. وما بين شعب عربى لا يعرف التخاذل وإرادة دولية بدأت تستعيد اتزانها قد تكون الأيام المقبلة بداية زمن آخر.. زمنٌ لا تُكتب فيه الحكاية الإسرائيلية وحدها بل حكاية شعب قاوم ووطن صمد وأمة لم تنكسر.